ثم يقول
عبد الجبار: "وإلى هذا أشار تعالى بقوله: ((
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))[ق:29]". ووجه استدلال
المعتزلة من هذه الآية واضح. وهنا يأتي سؤال وهو: هل ينكر
المعتزلة أن الله غفور أو رحيم؟
الجواب:
المعتزلة لا ينكرون ذلك؛ لكنهم يقولون: إن الله تعالى غفور لمن تاب فقط، ويستدلون بقوله تعالى: ((
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى))[طه:82].
ونحن نقول: إن الآية لا تخالف ما عليه
أهل السنة والجماعة من أن الله تعالى يغفر ويعفو لمن يشاء وإن لم يتب، ويستدل
أهل السنة بقوله تعالى: ((
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ))[غافر:3]، فالله تعالى وصف نفسه بوصفين متباينين: أنه غافر الذنب، وأنه قابل التوب، وهاتان الصفتان متعلقتان بنوعين من الناس: النوع الأول: أصحاب الذنوب وهم من مات وعليه ذنب، والنوع الثاني: من تاب من ذنبه، فالله سبحانه وتعالى يغفر الذنب لمن شاء دون الشرك؛ وذلك حتى نجمع بين جميع الآيات، فإن الله يقول: ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48]، فمن لقي الله تبارك وتعالى وهو مشرك فغير مغفور له، ولا يجوز أن يستغفر له، كما قال تعالى: ((
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ))[التوبة:113].
وقوله تعالى: ((
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا))[الزمر:53] يحمل على من تاب، وقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أتاه قوم من المشركين وقالوا: إن قوماً قتلوا فأكثروا، وأشركوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، وإنهم قد وجدوا آية من كتاب الله وهي التي في سورة الفرقان، فقرأ عليهم قوله تعالى: ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48] وقوله تعالى: ((
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))[الزمر:53] فالله تعالى يغفر الذنوب جميعاً، فإن كان الإنسان كافراً أو يهودياً أو نصرانياً، ثم تاب ودخل في الإسلام، فإن الإسلام يجب ما قبله، أما من مات؛ فإنه إما أن يلقاه وهو مشرك، فهذا لا غفران له، وإما أن يلقاه وهو مرتكب لكبيرة ولم يتب منها، فهذا أمره إلى الله، وسوف تأتي الأدلة إن شاء الله بالتفصيل.
أما استدلال
المعتزلة بقوله تعالى: ((
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))[ق:29] فنقول: لا وجه لاستدلالهم بها؛
لأن الظلم إنما يكون بمنع الإنسان حقه الذي هو له، وأما التكرم عليه بإعطائه ما ليس له، فهذا عكس الظلم تماماً؛ لأنه غاية الكرم والإنعام.